في غزة التي إختزلت التراجيديا الفلسطينية ليس الموت هو الإستثناء بل الحياة. الموت في غزة هو الأمر العادي، هو الوجبة التي يتناولها الغزيون خلال أوقات الموت اليومي صباحا عند الإفطار إن وجد، وظهرا عند الغداء إن وجد، ومساءً عند العشاء الذي لاوجود له. لا ينبغي لأهل غزة أن يسمنوا. السمنة من أمراض العصر الترمبي والنتياهوي. لا حياة في غزة ولا موت. محمود درويش هو الوحيد الذي يملك الحق الحصري في إختزال فلسطين موتا دائما وبلا مواعيد وحياة مؤجلة تنتظر شهادة دفن هي الأخرى مؤجلة بإنتظار «الأونروا» ومنظمات الغوث وقلق غوتيريش وصمت أحمد أبو الغيط. بين موت الغزاويين وحياتهم يقف العالم على الدرجة صفر من لقاءات ترمب ـ نتنياهو على أمل أن يحصل تقدم لكن ليس في ملف القضية بل في ملفهما الشخصي. أي مأساة هذه التي تتحول فيها القضية التي كانت تسمى قضية العرب المركزية الى مجرد صراع شخصي بين نتيناهو وخصومه داخل إسرائيل وحماس وخصومها داخل الوطن المذبوح الذي كان يسمى فلسطين. ترمب الباحث عن السلام الزائف على أمل الحصول على جائرة «نوبل» حتى يكمل باقي مستلزمات السيفي الرئاسي. ونتنياهو الباحث عن فرصة بقاء أخرى في الحكم بعد أن حد خصومه من داخل كيانه سكاكينهم من أجل ذبحه على قبلة خلافاتهم البينية.
«هدنة غزة» ليست اكثر من حياة مؤجلة بين موتين لا مسافة بينهما. محمود درويش الذي إصطلحنا على تسميته «شاعر القضية الفلسطينية» إختزل كل الحكايات التي حيكت حول القضية بعد أن رافق مساراتها منذ أول إحتلال عام 1948 حيث كان عمره 7 سنوات الى آخر الإحتلالات والحصارات، وأبرزها «حصار بيروت». درويش الذي مات قبل 17 عاما بقي يتمنى دائما أن يحيا سنة أخرى. سنة واحدة فقط لكي يعيش ويروي وكأن سنواته التي عاشها والبالغة 67 سنة لم تكن تكفي لسرد ماتبقى من الحكاية من الموت الى الولادة لا من الولادة الى الموت. في قصيدته «سنة أخرى فقط» يخاطب درويش أصدقاءه أن لايموتوا مثلما يتمنون. ليس من حق الفلسطيني أن يموت مثلما يريد حتف أنفه وحتف جوعه وحتف خذلانه. « أصدقائي , لا تموتوا مثلما كنتم تموتونَ .. رجاءً ، لا تموتوا، انتظروني سنةً أُخرى .. سنةً أُخرى فقط .رُبَّما نُنْهي حديثاً قد بَدَأْ .. ورحيلاً قد بدأْ». ويتساءل درويش قائلا بلوعة بعد أن أجل الموت موته سنة «هل خُنَّا أحدْ .. لنسمِّي كُلّ أرضِ، خارجَ الجرح، زَبَدْ؟ ونخافَ الدندنهْ .. رُبَّما نحمي اللُغَهْ .. من سياقٍ لم نكن نقصدُهُ .. ونشيدٍ لم نكن ننشدُهُ .. للكهنهْ.